تراتيل متوسطية

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
06/06/2011 06:00 AM
GMT



البحر المتوسط ليس كأي بحر. هو جسد الحضارة، لقاح الشعر، سرّة الثقافات الاولية والاولى، من شطآنه أشرقت شموس حضارات وغدت مرجعيات لكل ثقافة في عصرنا والعصور السالفة. هو الذي يسمّيه الروم: بحرنا. تمتد ظلاله إلينا ونبادله بشمس ورياح، ويختلط مصيره بمصائرنا. فما يحدث في القاهرة وتونس يعكس ظلاله على بغداد بأسرع مما يتوقع الغروب، يعجننا بمصير اليونان كالعرب الحالمين بما تهاوى من عصور. بحرهم وبحرنا أسطورة الماء ووطن الحوريات وبوسايدون، بيت الغرقى ومرآة أحلامهم الذائبة في الملح. يتساءل بريدراج ماتفيجيفتش مؤلف كتاب "تراتيل متوسطية": "هل يمكننا تخيل تاريخنا المشترك من دون اليونان؟".
تاريخ أوروبا الذي تغيّر، يمدّ جذوره اللامرئية في اليونان، وحتما ثمة امتدادات إلى روما والحضارات العربية التي عرفت أرسطو وبطليموس قبل الأوروبيين. يقول مقدم الطبعة العربية لكتاب "تراتيل متوسطية" ميشال براندينو ما يؤكد حقيقة الحضارات التي هبّت رياحها من الشرق الى الغرب: "تبنّى البتّاني منظورات بطليموس وأكملها الخوارزمي وتجاوزها البيروني الذي سبق غاليليو، لقد مرّت المعارف الجغرافية من الشرق والجنوب الى غرب المتوسط وشماله". نعم لقد مضت غرباً، متخذة مسار الشمس، هذا ما لم يقله الكتاب.
يخبرنا ماتفيجيفتش: "حكماء العصور القديمة كانوا يلقنوننا ان تخوم المتوسط توجد حيث ينتهي شجر الزيتون"، ويفسّر لنا اننا وإن كنا نعرف امتداد مياه البحر المتوسط فإننا لا نعرف إلى أي حد يمضي البحر ولا المدى الذي وصلت إليه ثقافة المتوسط في البرّ حيث يتلاشى زيتوننا وشجر التين.
يحمل الكتاب جوابا جوهرياً ومدهشاً عن سؤال طالما تردّد لدى الباحثين والمفكرين: ما المتوسط؟ الكتاب موجّه ضروري للانسان المعاصر، ويعدّ سفراً يجمع بين ثقافة كونية ومعارف واسعة ويقارب في جدليته كما يقول كلوديو ماغريس في المقدمة بين تقارب الحياة والأشياء والتاريخ وتباعدها، وهو منحاز الى الذاتية في الرؤية من دون أن يتنكر للكونية، ويقاوم الكليانية من دون ان يتجاهل المنظور الشمولي للواقع.
الكتاب الكنز، لعلي لا أبالغ اذا قلت إنه يذكّرني بـ"كتاب الرمل" الخرافي الذي ابتدعه بورخيس، فكل صفحة منه عبارة عن مكتبة هائلة من المعلومات والمتع. لا يستند الى المصادر ويقرأ الموسوعات فحسب بل يقرأ العالم والواقع والحركات ونبرات البشر واسلوب ادارة الموانئ وتمدد الطبيعة في التاريخ والفن واتخاذ اشكال السواحل أشكال المعمار ويرسم حدود ثقافة شجر الزيتون في امتداد الديانات او هجرة سمك السلور، يقرأ التواريخ والمصائر في اللغات الزائلة ولغة الامواج والأرصفة. يصير الكتاب ملحمة سخية بالأسفار، وبهذا وغيره يأسر البحر المتوسط ويمازجه بمذاق الزيت والخمر ولون الامواج وحمرة المرجان.
"يحتضن المتوسط، اجزاء واسعة من القارة الاوروبية، ويخضعها لتأثيره، فحدود ثقافته غير مندرجة لا في المكان ولا في الزمان (...) هذه الحدود ليست تاريخية ولا عرقية ولا وطنية ولا دولية، إنها دائرة طباشير لا تتوقف عن الرسم والامحاء (...) فعلى طول الساحل كانت تمر طريق الحرير وطريق العنبر وتتقاطع مع طريق الملح والتوابل والزيت والعطور، طرق الأدوات والأسلحة والفنون والمعرفة والنبوءات والإيمان". يمضي ماتفيجيفتش ليحدثنا عن معاناة الخطاب المتوسطي من الثرثرة حول الشمس والعطور وجزر السعادة والفتيات السريعات النضج والارامل المتشحات بالسواد والموانئ والنخل والزهو والبؤس والاوهام، وما كرره الادب من اوصاف وأقوال، خدمت البلاغة المتوسطية الديموقراطية والديماغوجية، خدمت الحرية والاستعباد، واستحوذت على المعبد والسوق، على العدالة والوعظ الفارغ.
يلاحق الكاتب المتناقضات المتوسطية، الهندسة والشكل والمنطق والعلم، ومن جهة اخرى اضدادها: الكتب المقدسة وكتب التصوف في مواجهة الحروب الصليبية او الجهاد، الذهن الكنائسي ونبذ التعصب، ساحة السوق والمتاهة الديونيسية ومكر سيزيف وخداعه، المشرق والمغرب، النصرانية والاسلام. يتفحص مزاج البشر المتوسطيين وشتائمهم الفاضحة وشهواتهم وشجارهم وعلاقتهم بالموج والريح والنجوم، يكتشف تدفق الانهار الى البحر وحنينها اليه: "تخترق الانهار المتوسطية البحر بطرائق مختلفة: يفعل بعضها باحتفال كأنها راضية بإنجاز واجبها، البعض الآخر يبدو مفاجئا ويدخل بفتور، يكون بعضها راضيا والآخر مترددا او مستسلما، تزج الاولى بمياهها على مضض في البحر، لا يحتفظ لها البحر بالاستقبال نفسه (...) عبرت كثيراً من انهار المتوسط متتبعاً مجراها واستحممت فيها وتنشقت الروائح التي تفوح من نباتاتها، تختلف انواع القصب من مصب الى آخر. ليس للصنوبر الرائحة نفسها في محيط الانهار او بعيدا عنها، اننا نعرف في روائحه مختلف مناطق المتوسط. يظهر هنا عالم النبات الشاعر والضليع بالشجر الخالد: ترسم شجرة التين حدود ثقافة المتوسط وتوسعها في المكان الذي يتراجع عنه شجر الزيتون وتختفي شجرتا البرتقال والليمون في ما وراء المصبات. يصف ترحل البشر، يحدثنا عن دول تختفي كالسراب او تترك لها اطلالا من رماد ورمل، يروي عن هجرة الاتراك من أعماق آسيا الى سواحل المتوسط وعن تسمياتهم وعاداتهم، مثلما يتحدث عن الأقباط وهجرة اليهود مع موسى، عن العرب الذين فتحوا البحر بسيادتهم على البر. من الشرق الى الغرب جاؤوا وهزموا الأسطول البيزنطي قرب رأس الفينيق، مثلما تقدمت هجرات الشعوب التي تتعقب الشمس، عرف العرب قبل غيرهم استعمال القطران ومصطلح أمير البحر الذي صار "أميرال"، منهم أحمد بن ماجد العارف بفن الملاحة، دليل فاسكو دي غاما. اجمل ما يكشفه لنا الكاتب ان المتوسط أكبر من أي أنتماء بسيط. لا يتحمل التقسيمات الضيقة جدا، إنها خيانة للبحر حين يعدّه خطاب التمركز الاوروبي نتاجا لاتينيا خالصا او رومانيا ويحكم عليه من وجهة نظر اغريقية او عربية او صهيونية. المتوسط لا يتحمل التجزئة ولا يقبل تحريف صورته من شعراء المناسبات والمبشرين وخطباء السياسة وبعض العلماء: "لقد دأبت الدول والكنائس، السلاطين والاساقفة، المشرعون العلمانيون والدينيون على تقسيم المكان والناس، لكن الروابط الداخلية تقاوم التقسيمات، المتوسط اكبر من أي انتماء بسيط". يتساءل ماتفيجيفتش: إلى أي حد ينسجم ماضي شعب ما وتاريخه واقعيا مع هذا الرابط – البحر؟
المتوسطيون الثملون بنشوة النبيذ والشعر والتربص بالحوريات يتحدثون عن الامواج أكثر مما يفعلون مع الرياح، ربما لأن الرياح تؤثر اكثر في المزاج والخطاب. تصنيف الرياح التي يقترحها علماء الارصاد الجوية بسيطة وعملية، فلها اسماء تنتمي الى الجهات، رياح اليوغو الجنوبية تتعاقب على الادرياتيكي مع رياح البورا الشمالية وريح الميسترال الناعمة تهب من البحر وريح لوفانا تأتي من الشرق والبولونا من الغرب. الشعر لا يعترف بهذه التصنيفات المحدودة الافق، فهو يطلق على الريح صفات ذكورية او انثوية، شبقية، مغرية، سموية أو شيطانية، غضوبا أو كيّسة، مداعبة، موسيقية، تلك التي تهيج الصداع او تلك التي تحرض على رؤية الحياة بكامل سحرها، هذه التي تلهم الشعر او استلهامات الفن، الرياح وحركاتها تغير الوان البحر. في لحظة ما يصير البحر نفسه، بل يتعرى وعندما يتعرى يمكننا ان نتخيل ما نشاء، قصورا قديمة او بقايا مدينة غارقة. البحر مرقد التيارات الغامضة والملاحم المنسية وغراميات حورية الكاليبسو مع البحارة التائهين.